كان الأمير شكيب أرسلان، المعروف بأمير البيان، إحدى الشّخصيّات البارزة الّتي التقت بحضرة عبد البهاء أكثر من مرّة، فتمكّنت المودّة بينهما، وتعدّدت اللّقاءات في بيروت منذ العام 1887.
يكتب الأمير شكيب أرسلان عن إقامة حضرة عبد البهاء وأتباعه من البهائيّين ما يلي:
الأمير شكيب أرسلان
"لقد كان يُمكن أن يكون محيطُ فضله [يقصد حضرة عبد البهاء] أوسع، وأفقُ علمه أنأى لو عاش في إحدى العواصم الكبرى الّتي يتّسع فيها المجالُ لمثله، ويكونُ فيها المحيطُ على نسبة نباهة قَدْره وسراوة نُبله، ولكن ضاق الميدانُ على الفارس وصَغُر الكرسيُّ عن الجالس. واعتاض من سِعَة المحيط وعظمة المقرّ بحُسْن أخلاق أهالي عكّا وكرَم طبائعهم وكونِهم قدّروه وأهلَه قدْرَهم، وعرفوا نُبلهم وأحلُّوهم المحلّ اللاّئق بهم؛ فَرَفِهَ بذلك عيشُهم ووَفَرَت حُرمتُهم وذهبت حَرْشَةُ غربتهم ولانت خشونةُ نَبْوَتِهم. ورافقهم [أي حضرة بهاء الله وأولاده] إلى منفاهم هذا نحو مائةٍ وخمسين شخصًا من أتباع طريقتهم من الإيرانيّين ليس فيهم إلاّ صاحب صنعة أو عمل، وهم جميعًا قائمون على خدمة هذا البيت الكريم؛ قد هجروا أوطانَهم حبًّا بجواره، وكان عبّاس أفندي يَكْنِفُهم بظلّه ويتعاهد جميعَهم بفضله". 1
ثمّ يصف حضرة عبد البهاء بشيءٍ من التّفصيل قائلاً:
"في العام الماضي انتقل إلى الدّار الآخرة عبد البهاء عبّاس وقد ذرف على الثّمانين، وكان آيةً من آيات الله بما جمع الله فيه من معاني النّبالة ومنازع الأصالة والمناقب العديدة الّتي قلّ أن ينالَ منها أحدٌ مناله أو يبلغ فيها كماله، من كرم عريض وخُلُق سجيح وشغف بالخير وولوع بإسداء المعروف وإغاثة الملهوف وتعاهُد المساكين بالرِّفْد بدون مَلَل، وقضاء حاجات القاصدين بدون بَرَم. هذا، مع علوّ النّفْس وشُغوف الطّبْع ومضاء الهمّة ونفاذ العزيمة وسرعة الخاطر وسَداد المنطق وسعة العلم ووفور الحكمة وبلاغة العبارة، حتّى كأنّ فصاحتَه صَوْبُ الصّواب وأقوالَه فصلُ الخطاب، وكتاباتِه الدّيباجُ المُحْبَر وفصولَه الوشْيُ المُنَمْنَم، يَفيض بيانُه جوامعَ كَلِمٍ، وتَسيلُ عارضتُه سيلَ عارضٍ منسجم، ويودّ اللّبيب لو أقام العمرَ بمجلسه يَجني من زهر أدبه البارع، ويَرِدُ من منهل حكمته الطّيّبة المَشارع". 2
يُقدّم الأمير شكيب لقارئيه ما كان يراه من علم ومعارف كان يمتلكها حضرة عبد البهاء، فيقول: "استولى من المعقول الأمدَ الأقصى، وأصبح في الإلهيّات المثَل الأعلى، وبلغَ من قوّة الحجّة وأصالة الرّأي وبُعْد النّظر الغايةَ الّتي تفنى دونَها المُنى؛ حتّى لو قال الإنسانُ إنّه كان أُعجوبةَ عصره ونادرةَ دهره، لما كان مبالِغًا، ولو حَكَم بأنّه من الأفذاذ الّذين قلّما يَلِدُهم الدّهرُ إلاّ في الحِقَب الطّوال، لكان قولُه سائغًا". 3
أمّا فيما يتعلّق بشخصيّة حضرة عبد البهاء والّتي كان يراها تجمع بين القوّةَ واللّين، فيقول: "وكان – أحسن الله مُنقَلَبَه – مستوفيًا شروط الرّئاسة، ذا وقار في رسوخ الجبال، ومهابة يقف عندها الرّئبال، وحشمة لا تُرى إلاّ في الملوك أو في صناديد الرّجال. ومع هذا كلّه، فكانت مجالس حكمته مطرَّزةً باللّطائف، ومحاضرُ جِدّه مهلهَلةً بالرّقائق".4
ممّا يذكره أيضًا أميرُ البيان عن حضرة عبد البهاء هو مدى الفصاحة الّتي شاهدها فيه والبلاغة الّتي تميّزت بها كتاباتُه، كما يضمّن كلامَه نموذجًا من كتابات عبد البهاء يبدو أنّه استهواه لحدّ كان يحفظه في ذاكرته. يقول في ذلك: "كانت رسائلُه، على كثرتها، تُتلى وتُؤْثَر وتُحفظ حِفْظَ النّفائس في الخزائن وتُدّخَر؛ وإنّي لأحفظ له كلمات من كتاب مداعبة بَعث به إلى أحد أصحابه من شُعراء بيروت، وهي (من صَيدكَ في صيدا، وحيفك في حيفا، ونفخك في الصّور، ونقرك في النّاقور). تعلمُ من هذا الكلمات المعدودة ملَكته الأدبيّة وقدرتَه على التّصرّف بزمام العربيّة، مع أنّها ليست لغتَه الأصليّة. ولو وسع المكان لأوردنا له كثيرًا من بدائع التّرسّل الدّالّة على تمام ملَكته وسموّ طبقته". 5
أمّا عن العلاقة الشّخصيّة الّتي كانت تربطه بحضرة عبد البهاء، فيقول الأمير شكيب: "كانت له [أي حضرة عبد البهاء] مع هذا العاجز [يقصد نفسه] مراسلاتٌ متّصلةٌ باتّصال حبل المودّة وعُمران جانب الصّداقة، ومرارًا قصدتُ عكّا ولا غَرَضَ لي فيها سوى الاستمتاع بأدبه الغضّ والاغتراف من علمه الجمّ".6
[1] حاضر العالم الإسلامي تأليف لوثروب ستودارد مع فصول وتعليقات وحواش للأمير شكيب أرسلان، نقله إلى العربيّة عجاج نويهض، المطبعة السّلفيّة، القاهرة، 1343. ج2، ص 374. [2]المرجع السّابق، ج2، ص 374 [3]المرجع السّابق، ج2، ص 374 [4]المرجع السّابق، ج2، صص 374 [5]المرجع السّابق، ج2، ص 374، 375 [6]المرجع السّابق، ج2، ص 375
"في العام الماضي انتقل إلى الدّار الآخرة عبد البهاء عبّاس وقد ذرف على الثّمانين، وكان آيةً من آيات الله بما جمع الله فيه من معاني النّبالة ومنازع الأصالة والمناقب العديدة الّتي قلّ أن ينالَ منها أحدٌ مناله أو يبلغ فيها كماله، من كرم عريض وخُلُق سجيح وشغف بالخير وولوع بإسداء المعروف وإغاثة الملهوف وتعاهُد المساكين بالرِّفْد بدون مَلَل، وقضاء حاجات القاصدين بدون بَرَم. هذا، مع علوّ النّفْس وشُغوف الطّبْع ومضاء الهمّة ونفاذ العزيمة وسرعة الخاطر وسَداد المنطق وسعة العلم ووفور الحكمة وبلاغة العبارة، حتّى كأنّ فصاحتَه صَوْبُ الصّواب وأقوالَه فصلُ الخطاب، وكتاباتِه الدّيباجُ المُحْبَر وفصولَه الوشْيُ المُنَمْنَم، يَفيض بيانُه جوامعَ كَلِمٍ، وتَسيلُ عارضتُه سيلَ عارضٍ منسجم، ويودّ اللّبيب لو أقام العمرَ بمجلسه يَجني من زهر أدبه البارع، ويَرِدُ من منهل حكمته الطّيّبة المَشارع". 2
يُقدّم الأمير شكيب لقارئيه ما كان يراه من علم ومعارف كان يمتلكها حضرة عبد البهاء، فيقول: "استولى من المعقول الأمدَ الأقصى، وأصبح في الإلهيّات المثَل الأعلى، وبلغَ من قوّة الحجّة وأصالة الرّأي وبُعْد النّظر الغايةَ الّتي تفنى دونَها المُنى؛ حتّى لو قال الإنسانُ إنّه كان أُعجوبةَ عصره ونادرةَ دهره، لما كان مبالِغًا، ولو حَكَم بأنّه من الأفذاذ الّذين قلّما يَلِدُهم الدّهرُ إلاّ في الحِقَب الطّوال، لكان قولُه سائغًا". 3
أمّا فيما يتعلّق بشخصيّة حضرة عبد البهاء والّتي كان يراها تجمع بين القوّةَ واللّين، فيقول: "وكان – أحسن الله مُنقَلَبَه – مستوفيًا شروط الرّئاسة، ذا وقار في رسوخ الجبال، ومهابة يقف عندها الرّئبال، وحشمة لا تُرى إلاّ في الملوك أو في صناديد الرّجال. ومع هذا كلّه، فكانت مجالس حكمته مطرَّزةً باللّطائف، ومحاضرُ جِدّه مهلهَلةً بالرّقائق".4
أمّا عن العلاقة الشّخصيّة الّتي كانت تربطه بحضرة عبد البهاء، فيقول الأمير شكيب: "كانت له [أي حضرة عبد البهاء] مع هذا العاجز [يقصد نفسه] مراسلاتٌ متّصلةٌ باتّصال حبل المودّة وعُمران جانب الصّداقة، ومرارًا قصدتُ عكّا ولا غَرَضَ لي فيها سوى الاستمتاع بأدبه الغضّ والاغتراف من علمه الجمّ".6
[1] حاضر العالم الإسلامي تأليف لوثروب ستودارد مع فصول وتعليقات وحواش للأمير شكيب أرسلان، نقله إلى العربيّة عجاج نويهض، المطبعة السّلفيّة، القاهرة، 1343. ج2، ص 374.
[2] المرجع السّابق، ج2، ص 374
[3] المرجع السّابق، ج2، ص 374
[4] المرجع السّابق، ج2، صص 374
[5] المرجع السّابق، ج2، ص 374، 375
[6] المرجع السّابق، ج2، ص 375