بناء الحياة الرّوحانية

طالما نتكلّم عن الحاجة إلى الرّوحانية في حياتنا اليوميّة، وذلك لعلمنا أنّ الإنسان ليس آلةً مادّيّة جسديّة فحسب، بل هو كائن يتميّز عن سائر المخلوقات الكونيّة بقوّة معنويّة تمكّنه من تجاوز الحاجز المادّي في حياة الإنسان ليبلُغ رحاب عالم الجمال والجلال المعنويَّيْن، وهو ما نسمّيه "الحياة الرّوحانيّة". لا شكّ في أنّ حياتنا هي أكثر من مجرّد حياة جسمانيّة زائلة؛ فلو كان الأمر كذلك لكانت حياتُنا عبثًا لا غاية أو هدف لها. لذلك، فالإنسان بحاجة إلى إغناء حياته بعوامل تعلو به من حضيض المادّة إلى آفاق الرّوح. إنّ الدّعاء والصّلاة يكوّنان الوسيلة الّتي تجعلنا ندرك أنّ لحياتنا أبعادًا مطلقة أسمى من تلك الّتي تتّسم بها المادّة المحدودة، ولذلك سُرعان ما ندرك أنّه كلّما ابتعدنا عن الصّلاة والدّعاء وعن ذكر الله، شعرنا أكثر فأكثر بالفراغ في حياتنا وبالعبثيّة في أعمالنا وأفعالنا، وبالتّالي شعرنا بحاجة تتنامى في وجداننا لهدف أسمى لوجودنا في هذا العالم، والدّعاء وأحوال التّبتّل والتّأمّل والتّفكّر، والّتي تمثّل أهمّ وجه من أوجه الحياة الرّوحانيّة، تأخذ بنا إلى ذلك الهدف السّامي والمقام المتعالي.

تخلق الحياة الرّوحانية رابطًا وثيقًا بين البشر والخالق؛ وهذه العلاقة الرّوحانية بخالقنا تُحيي وتقوّي شعورنا بوجوده في حياتنا اليوميّة، وتؤدّي إلى حالة من السّموّ في إنسانيّتنا وفي حياتنا اليوميّة وفي تعاملنا مع الآخرين تخلق فينا لذّة معنويّة لا تضاهيها أيّ لذّة مادّيّة.
لذلك، إنّ الصّلاة والدّعاء أمران ضروريّان في حياتنا لأنهما يغذّيان الرّوح الإنسانيّة الّتي تمثّل أسمى مراتب وجودنا كبشر يحيون بالرّوح وليس بالجسد فقط. إنّ الدّعاء الّذي هو أحد السّبل الّتي تمكّن الإنسان من تمجيد مَن خلَقه ومن التّعبير عن محبّته له، يهبنا قوّة تمكّننا من مواجهة مصاعب الحياة اليوميّة ومن نيل سعادة معنويّة وأمل متجدّد وقدرة على إنجاز كلّ خير نصبو إليه. هذه الحالة الّتي يشعر بها الإنسان بعد الدّعاء الخالص تلقاء خالقه هو ما يُعبَّر عنه بـ "التّأييد الإلهي" أو "العناية الرّبّانيّة".

لذلك، يعقد البهائيّون أهمّيّة كبيرة على الدّعاء؛ فيشاركون أقرانهم من أبناء مجتمعهم في تلاوة الكلمة الإلهيّة في جلسات دعاء روحانيّة لا يُفرّق فيها بين دين وآخر، بل تُعتبر كلّ كلمة أنزلها الله لعباده ويرفعها عبادُه له، في أيّ دين أو مذهب، إنّما هي وسيلة لبناء حياة روحانيّة للفرد تؤدّي إلى بناء المجتمع على أسس المحبّة والاتّحاد. تنمّي هذه الرّوح التّعبّديّة الحسّ العميق لدى الفرد بالهدف السّامي وراء حياته الدّنيويّة، وبضرورة العمل الجماعيّ لخدمة المجتمع ودفعه نحو حياة أفضل.

تشير كلّ الكتابات المقدّسة لجميع الأديان والرّسالات السّماويّة إلى أنّ "الرّوحانية" صفةٌ مميّزة وخاصّة بالإنسان، وأنها أساس لترّقي البشريّة، وهي تخلق في وجداننا حسًّا بالهدف الأسمى لوجودنا الإنسانيّ، وتوحّد رؤيتنا لنبني معًا مستقبلاً واعدًا وأكثر إشراقًا وتلألؤًا.

ركزت الكتابات المقدّسة العالميّة على أهميّة طهارة القلب الصّادق النّقيّ كمدخلٍ إلى الرّوحانيّة؛ فقد جاء في الإنجيل المقدس: "طوبى لأنقياء القلب"، وفي القرآن الكريم: "ما كذب الفؤاد ما رأى"، كما أشار حضرة بهاء الله إلى الارتباط الكائن بين القلب المنير ومملكة الحياة الأبديّة بقوله: "يَا ابْنَ الرُّوحِ، فِي أَوَّلِ القَوْلِ امْلِكْ قَلْباً جَيِّداً حَسَناً مُنيراً لِتَمْلِكَ مُلْكاً دائِماً باقِياً أَزَلاً قَدِيماً".